• ×

06:58 مساءً , الأربعاء 15 مايو 2024

سورة البقرة الجزء الأول

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْبَقَرَةِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ.

أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْقُرْءَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِشَارَةَ الْقَرِيبِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [71 9] ، وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [27 76] .

وَكَقَوْلِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [6 92] .

وَكَقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [12 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْجُهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا حَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ مِنْ أَنَّ وَجْهَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِإِشَارَةِ الْحَاضِرِ الْقَرِيبِ، أَنَّ هَذَا الْقُرْءَانِ قَرِيبٌ حَاضِرٌ فِي الْأَسْمَاعِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْقُلُوبِ، وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِإِشَارَةِ الْبَعِيدِ هُوَ بُعْدُ مَكَانَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ مِنْ مُشَابَهَةِ كَلَامِ الْخَلْقِ، وَعَمَّا يَزْعُمُهُ الْكُفَّارُ مِنْ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: الم، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مُنْقَضٍ، وَمَعْنَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْقَرِيبُ لِقُرْبِ انْقِضَائِهِ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِالرَّجُلِ يُحَدِّثُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ لَهُ مَرَّةً: وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَكَمَا قُلْتُ، وَمَرَّةً يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَكَمَا قُلْتُ، فَإِشَارَةُ الْبَعِيدِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَضَى وَانْقَضَى، وَإِشَارَةُ الْقَرِيبِ نَظَرًا إِلَى قُرْبِ انْقِضَائِهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَشَارَتْ إِلَى الْقَرِيبِ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى

أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ، لَمَّا قُتِلَ مَالِكُ بْنُ حَرْمَلَةَ الْفَزَارِيُّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًا
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنُهُ ... تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يَعْنِي أَنَا هَذَا، وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْمُثَنَّى أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى هَذَا الْكِتَابُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ.
هَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ رُكِّبَتْ مَعَ «لَا» ، فَبُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ.
وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَ «لَا» هَذِهِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ: «لَا» الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ، أَمَّا «لَا» الْعَامِلَةُ عَمَلَ لَيْسَ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ لَا نَصٌّ فِيهِ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ نَصٌّ فِي نَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الرَّيْبِ عَنْ هَذَا الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الرَّيْبِ فِيهِ لِبَعْضٍ مِنَ النَّاسِ، كَالْكُفَّارِ الشَّاكِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [2] .
وَكَقَوْلِهِ: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [9 45] .
وَكَقَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [44 \ 9] .
وَوَجْهُ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْءَانَ بَالَغَ مِنْ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ وَظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ مَا يَنْفِي تَطَرُّقَ أَيِّ رَيْبٍ إِلَيْهِ، وَرَيْبُ الْكُفَّارِ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِعَمَى بَصَائِرِهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [13 \ 19] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ عَمَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَةِ الْأَعْمَى لِلشَّمْسِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا لَا رَيْبَ فِيهَا لِظُهُورِهَا:
إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ ... فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرٌ
وَأَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ، أَيْ: لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ.
خَصَّصَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُدَى هَذَا الْكِتَابِ بِالْمُتَّقِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُدَاهُ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ الْآيَةَ [2 \ 185] . وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهُدَى يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْءَانِ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالثَّانِي خَاصٌّ، أَمَّا الْهُدَى الْعَامُّ فَمَعْنَاهُ إِبَانَةُ طَرِيقِ الْحَقِّ وَإِيضَاحُ الْمَحَجَّةِ، سَوَاءٌ سَلَكَهَا الْمُبَيَّنَ لَهُ أَمْ لَا، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [41 \ 17] ، أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَالِحٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْلُكُوهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [41 \ 17] .
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 3] ، أَيْ بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [76 \ 3] .
وَأَمَّا الْهُدَى الْخَاصُّ فَهُوَ تَفَضُّلُ اللَّهِ بِالتَّوْفِيقِ عَلَى الْعَبْدِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الْآيَةَ [6] .
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [6 \ 125] .
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْهُدَى الْخَاصَّ بِالْمُتَّقِينَ هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، وَهُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ عَلَيْهِمْ، وَالْهُدَى الْعَامُّ لِلنَّاسِ هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، وَهُوَ إِبَانَةُ الطَّرِيقِ وَإِيضَاحُ الْمَحَجَّةِ، وَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ أَيْضًا بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56] ، مَعَ قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] ، لِأَنَّ الْهُدَى الْمَنْفِيَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [5 \ 41] .
وَالْهُدَى الْمُثْبَتُ لَهُ هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ الَّذِي هُوَ إِبَانَةُ الطَّرِيقِ، وَقَدْ بَيَّنَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَرَكَهَا مَحَجَّةً بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [10 \ 25] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى عَدَمِ إِيمَانِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [8 \ 38] ، وَكَقَوْلِهِ: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [4 \ 94] ، وَكَقَوْلِهِ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ [29 \ 47] .
وَوَجْهُ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّهَا فِي خُصُوصِ الْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] ، وَيَدُلُّ لِهَذَا التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ [2 \ 7] .
وَأَجَابَ الْبَعْضُ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ، مَا دَامَ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَالْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ، فَإِنْ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ آمَنُوا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ الْآيَةَ.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ لِأَنَّ مَنْ خُتِمَ عَلَى قَلْبِهِ وَجُعِلَتِ الْغِشَاوَةُ عَلَى بَصَرِهِ سُلِبَتْ مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [41 \ 17] .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ [2 \ 175] .
وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ الْآيَةَ [18 \ 29] ، وَكَقَوْلِهِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ الْآيَةَ [3 \ 182] .
وَكَقَوْلِهِ: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ الْآيَةَ [5 \ 80] .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ وَالْغِشَاوَةَ الْمَجْعُولَةَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى مُبَادَرَتِهِمْ لِلْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ، فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ جَزَاءً وِفَاقًا، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:

بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] .
وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [63 \ 3] .
وَبِقَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [6 \ 110] .
وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5] .
وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 10] .
وَقَوْلِهِ: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [83 \ 14] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا الْآيَةَ.
أَفْرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: اسْتَوْقَدَ وَفِي مَا حَوْلَهُ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [2 \ 17] ، مَعَ أَنَّ مَرْجِعَ كُلِّ هَذِهِ الضَّمَائِرِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ لَفْظَةُ «الَّذِي» مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَةَ: «الَّذِي» مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهَا عَامٌّ لِكُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهَا وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَوْصُولَةَ كُلَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَإِذَا حَقَّقَتْ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ لَفْظَةِ: «الَّذِي» وَجَمْعَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ: «الَّذِي» تَأْتِي بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْءَانِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَقَوْلُهُ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ أَيْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ الْآيَةَ [2 \ 17] .
وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الْآيَةَ [39 \ 33] . وَقَوْلُهُ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [2 \ 264] ، أَيْ كَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [2 \ 264] .
وَقَوْلُهُ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [9] ، بِنَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّ: «الَّذِي» فِيهَا مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِي مَنْ قَعَدْ
إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ

وَقَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ أَشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ، وَأَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ لِإِطْلَاقِ الَّذِي وَإِرَادَةِ الَّذِينَ:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدٍ
وَزَعَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ لَفْظَةَ الَّذِي فِي بَيْتِ أَشْهَبَ جَمْعٌ أَلْذٍ بِالسُّكُونِ، وَأَنْ «الَّذِي» فِي الْآيَةِ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَكَلَامُ سِيبَوَيْهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ عُدَيْلِ بْنِ الْفَرْخِ الْعِجْلِيِّ:
وَبِتُّ أُسَاقِي الْقَوْمَ إِخْوَتِيَ الَّذِي ... غَوَايَتُهُمْ غَيِّي وَرُشْدُهُمُ رُشْدِي
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُسْتَوْقِدُ وَاحِدٌ لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ الْآيَةَ.
هَذِهِ الْآيَةُ يَدُلُّ ظَاهِرُهَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، وَلَا يُبْصِرُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [2 \ 20] .
وَكَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ الْآيَةَ [63 \ 4] ، أَيْ لِفَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ.
وَقَوْلِهِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [33 \ 19] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بُكْمٌ عَنِ النُّطْقِ بِالْحَقِّ، وَإِنْ تَكَلَّمُوا بِغَيْرِهِ، صُمٌّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَإِنْ سَمِعُوا غَيْرَهُ، عُمْيٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَإِنَّ رَأَوْا غَيْرَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْجَمْعَ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً الْآيَةَ [46 \ 26] ، لِأَنَّ مَا لَا يُغْنِي شَيْئًا فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، وَالْعَرَبُ رُبَّمَا أَطْلَقَتِ الصَّمَمَ عَلَى السَّمَاعِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَعْنَبِ بْنِ أُمِّ صَاحِبٍ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَصَمُّ عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ ... وَأُسْمِعُ خَلْقَ اللَّهِ حِينَ أُرِيدُ
وَقَوْلُ الْآخَرَ:

فأَصْمَمْتُ عَمْرًا وَأَعْمَيْتُهُ ... عَنِ الْجُودِ وَالْفَخْرِ يَوْمَ الْفَخَّارِ
وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَهُوَ كَالْعَدَمِ.
قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ:
وَإِنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنَّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ الْآيَةَ.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النَّارَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ؛ بِدَلِيلِ أَلِ الْعَهْدِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» : قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [66 \ 6] .
فَتَنْكِيرُ النَّارِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهَا كَوْنَ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ وَقُودًا لَهَا فَنَزَلَتْ آيَةُ «التَّحْرِيمِ» فَعَرَفُوا مِنْهَا ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ نَزَلَتْ آيَةُ «الْبَقَرَةِ» ، فَعُرِّفَتْ فِيهَا النَّارُ بِأَلِ الْعَهْدِيَّةِ لِأَنَّهَا مَعْهُودَةٌ عِنْدَهُمْ فِي آيَةِ «التَّحْرِيمِ» .
ذَكَرَ هَذَا الْجَمْعَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْخَطِيبُ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَزَعَمَا أَنَّ آيَةَ «التَّحْرِيمِ» نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَظَاهِرُ الْقُرْءَانِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ النَّارِ هُنَا بِأَلِ الْعَهْدِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى عَهْدٍ سَابِقٍ، وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ دَلِيلٌ عَلَى الْعَهْدِ وَعَدَمِ قَصْدِ الْجِنْسِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ سُورَةَ «التَّحْرِيمِ» مَدَنِيَّةٌ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ نُزُولُهَا بَعْدَ «الْبَقَرَةِ» .
كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَوَازِ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ كَالْعَكْسِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ بِدَلِيلِ لَفْظَةِ: «ثُمَّ» الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالِانْفِصَالِ، وَكَذَلِكَ آيَةُ «حم السَّجْدَةِ» ، تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 9] ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ [41 \ 11] . مَعَ أَنَّ آيَةَ «النَّازِعَاتِ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَحْوَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [75 \ 27] .
ثُمَّ
قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [79] .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ آيَةِ «السَّجْدَةِ» وَآيَةِ «النَّازِعَاتِ» ، فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا قَبْلَ السَّمَاءِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَالْأَنْهَارَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَصْلُ خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَدَحْوِهَا بِجِبَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وَلَمْ يَقُلْ خَلَقَهَا، ثُمَّ فَسَّرَ دَحْوَهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا الْآيَةَ [79 \ 31] . وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ، إِلَّا أَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ مِنْ آيَةِ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بِأَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوَهَا بِمَا فِيهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ [21 \ 129] . وَقَدْ مَكَثْتُ زَمَنًا طَوِيلًا أُفَكِّرُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ، حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ إِلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَفَهِمْتُهُ مِنَ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ مَرْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْءَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ: الْخَلْقُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ التَّقْدِيرُ لَا الْخَلْقُ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّقْدِيرَ خَلْقًا وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ... ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَلْقِ التَّقْدِيرُ، أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» حَيْثُ قَالَ: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [41 \ 11] ، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ [41 \ 11] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، وَهِيَ أَصْلٌ لِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ كُلُّ مَا فِيهَا كَأَنَّهُ خَلْقٌ بِالْفِعْلِ لِوُجُودِ أَصْلِهِ فِعْلًا، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يُمْكِنُ بِهِ إِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى الْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ [7 \ 11] .
قَوْلُهُ: خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ بِخَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُكُمْ.
وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [79] ، أَيْ مَعَ ذَلِكَ، فَلَفْظَةُ «بَعْدَ» بِمَعْنَى مَعَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [68 \ 13] .
وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَبِهَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ: «وَالْأَرْضَ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا» ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنْ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ مِنْهَا أَنَّ «ثُمَّ» بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [90 \ 17] .


بواسطة : essaher
 0  0  691
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 06:58 مساءً الأربعاء 15 مايو 2024.