• ×

01:09 صباحًا , الأربعاء 15 مايو 2024

النازلة التاسعة : العجز عن المبيت بمزدلفة .

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

النازلة التاسعة : العجز عن المبيت بمزدلفة .
أعداد الحجيج في هذه السنوات تصل إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين و السيارات الكبيرة والصغيرة تصل إلى الآلاف و الطرق محدودة ولهذا يظهر بعض المشاكل في خطة السير فيتعرقل جزء كبير من الحجيج وفي بعض السنوات تعرقل بعض الحجاج فلم يبلغُوا مزدلفة إلى بعد طلوع الشمس وهذه لا شك أنها نازلة وكثير من الحجاج أقلقهم هذا الأمر وسألوا عنه كثيراً ولذلك كان من المناسب أن نبحثها في هذا المجلس خاصةً وأن الأمر ليس نادراً أو شاذا فمع كثرة الحجيج وكثرة السيارات ربما هذا يحصل كل سنة لكنه في سنة واحدة ظهر واستفاض لوجود مشكلة كبيرة لكن في بعض السنوات ربما يكون العدد اقل ولهذا ما تظهر على السطح فنريد أن نتحدث عن هذه النازلة.
وقبل أن نبحث الحكم فيمن فاته الوقوف بمزدلفة بهذا السبب ونحوه نقدم ببعض المقدمات المهمة في هذا الباب .
أول هذه المقدمات هي بيان هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مزدلفة فإن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كما في حديث جابر وغيرة من الأحاديث التي نقلت صفة حجة النبي _صلى الله عليه وسلم_ لما غربت الشمس من يوم عرفة وسقط قرص الشمس وذهبت الصفرة دفع _صلى الله عليه وسلم_ من عرفات إلى مزدلفة وكان يسير وعليه السكينة والوقار ويقول أيها الناس السكينة السكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل ومازال _صلى الله عليه وسلم _ في طريقه عليه السكينة حتى بلغ جمعاً يعني بلغ مزدلفة. ومزدلفة تسمى مزدلفة وتسمى جمعاً وتسمى المشعر الحرام هذه كلها أسماء لبقعة واحدة ومنسك واحد من مناسك الحج وهي المزدلفة فلما بلغها النبي _صلى الله عليه وسلم_ لم يبدأ بشيء قبل الصلاة حتى إن الأحمال ما أنزلت من على ظهور الإبل فأمر المؤذن فأذن ثم أقام ثم صلى _صلى الله عليه وسلم_ بالناس صلاة المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيرهُ ثم أقيمت الصلاة وصلى بهم _صلى الله عليه وسلم _ صلاة العشاء ركعتين ثم إن النبي _صلى الله عليه وسلم _ أضطجع أو رقد في تلك الليلة ولما كان من أخر الليل أمر ضعفة أهله _صلى الله عليه وسلم _ فدفعوا إلى منى وكان معهم عدد من الشباب من بني عبد المطلب من أمثال ابن عباس ونحوه في السن فدفعوا من آخر الليل إلى منى وأما النبي _صلى الله عليه وسلم _ فإنه بقي في مزدلفة حتى إذا بزغ الفجر قائل يقول إنه طلع الفجر وقائل يقول إنه لم يطلع أذن لصلاة الفجر ثم أقيمت الصلاة ثم صلى النبي _صلى الله عليه وسلم _ بالمسلمين صلاة الفجر في المزدلفة فلما صلى صلاة الفجر ركب بعيره وأتى إلى المشعر الحرام. والمشعر الحرام اسم لكل مزدلفة واسم لجبل في مزدلفة يسمى جبل المشعر الحرام هذا الجبل أزيل الآن وأقيم عليه المسجد المعروف الآن بمسجد المشعر الحرام فأتى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ حتى وقف عند المشعر الحرام فقال وقفت هاهنا وجمع كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر ثم استقبل القبلة _صلى الله عليه وسلم _ فوحد الله وهلله وكبره ورفع يديه يدعو ويتضرع _صلى الله عليه وسلم _ حتى أسفر جدا . يعني قبيل شروق الشمس ثم ركب ناقته ودفع إلى منى _عليه الصلاة والسلام _ عليه السكينة والوقار. هذا هو هدي النبي _صلى الله عليه وسلم _ في مزدلفة وكان المشركون لا يدفعون من مزدلفة حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون "أشرق ثبير كي ما نغير" ثبير جيل يطل على مزدلفة هو أرفع الجبال كانوا ما ينصرفون من مزدلفة حتى تطلع الشمس على هذا الجبل فخالفهم النبي _صلى الله عليه وسلم_ ودفع قبل طلوع الشمس هذا هو هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مزدلفة ولا شك أن خير الهدي وأكمل الهدي هو هدي رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ بعد ذلك ننتقل إلى :
مقدمة ثانية قبل الحديث عن مسألتنا التي بين أيدينا هذه المقدمة هي :
ما حكم المبيت بمزدلفة ليلة العيد؟ فأقول إن أهل العلم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال فمن أهل العلم من قال إن المبيت بمزدلفة ليلة العيد ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به فمن فاته فقد فاته الحج . ومن أهل العلم من قال أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج وليس ركناً . وهذا القول هو قول جماهير أهل العلم بما فيهم الأئمة الأربعة . والقول الثالث من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة ليلة العيد سنه . والذي لا ريب فيه ولا شك والعلم عند الله هو رجحان قول من قال أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج. يجب على الحاج لكنه لو فاته فإن حجه صحيح . والذين قالوا بأنه واجب من واجبات الحج استدلوا بعدد من الأدلة لكن من أظهر هذه الأدلة قول الله سبحانه وتعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] والمشعر الحرام كما قلت لكم قبل قليل هو أسم من أسماء مزدلفة كما أن مما استدل به هؤلاء على وجوب المبيت بمزدلفة حديث عروة بن مضرس الذي مر معنا في المجلس الماضي وقد رواه الخمسة وهو حديث صحيح وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لعروة بن مضرس من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثهُ . فقيد النبي _صلى الله عليه وسلم _ تمام الحج بالوقوف بمزدلفة يعني قال من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع.ومن أدلتهم أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقف بجمع أو بات بمزدلفة وقال لتأخذوا عني مناسككم . هذا هو ما استدل به أصحاب هذا القول على أن المبيت بمزدلفة وأجب من واجبات الحج كما أن مما استدل به أصحاب هذا القول أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رخص للضعفة من آخر الليل ...الخ والرخصة لا تكون إلا في مقابل الواجب . فانه لا يقال رخص لهم في ترك السنة وإنما يقال رخص لهم في ترك الواجب أو جزء من الواجب . أما من قال أن المبيت بمزدلفة ركن في الحج فإن هؤلاء أظهر دليل لهم هو ما ورد في بعض روايات حديث عروة بن مضرس الطائي _رضي الله تعالى عنه _ كما عند النسائي فانه ورد في رواية عند النسائي أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال " من أدرك الإمام والناس وأفاض معنا فقد أدرك ومن فاته الناس والإمام فلم يدرك" يعني من أدرك الوقوف مع الإمام والناس وأفاض معهم فقد أردك الحج ومن فاته الوقوف مع الناس والإفاضة معهم فقد فاته الحج . لكن هذه الرواية كما عليه أكثر أهل العلم أنها رواية غير محفوظة لا تصح عن النبي _صلى الله عليه وسلم _ كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر _رحمه الله تعالى_ والشنقيطي كما في أضواء البيان. فهذه الرواية لا تصح عن النبي_صلى الله عليه وسلم _ أنما حديث عروة بن الضرس روايته المحفوظة هي الرواية التي كررناها مراراً أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال " من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثهُ" أيضا مما يدل على أن المبيت بمزدلفة ليس ركنا في الحج حديث عبد الرحمن بن يعمر_رضي الله تعالى عنه_ الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد بسند صحيح أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال " الحج عرفة " فمن أردك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد أدرك . وفي بعض الروايات فقد تم حجهُ . في هذا الحديث يخبر النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن من أدرك الوقوف بعرفة ولو لحظة قبل طلوع الفجر من ليلة مزدلفة فقد تم حجه وأدرك الحج فالإنسان الذي لا يقف بعرفة إلا في أخر لحظة من ليلة مزدلفة متى سيقف في مزدلفة ؟ إذا كان جمهور أهل العلم يقولون إن الوقوف قبل طلوع الفجر فهذا بالتأكيد سيفوته الوقوف بمزدلفة ولو كان إذا فاته الوقوف بمزدلفة لا يصح حجه لا أخبر بذلك النبي _صلى الله عليه وسلم_ لكنه قال "فقد تم حجهُ" فهذه الأدلة بمجموعها تدل على أن المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج .يأثم الإنسان بتركه متعمداً ولكنه لا يبطل حجه بل حجه صحيح هذا هو أعدل الأقوال في مسألة حكم المبيت بمزدلفة. أما قول من يقول أنه سنه فهذا قول ضعيف ومستنده ضعيف فإنهم يقيسونه على المبيت بمنى ليلة التاسع ولا شك أن هذا قياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابل النص.
المقدمة الثالثة المقدار الواجب من المبيت في مزدلفة .
قلنا ان المبيت بمزدلفة واجب على الصحيح من أقوال أهل العلم وهو الذي عليه جماهير أهل العلم فما هو المقدار الواجب من هذا المبيت؟ يعني كم يجزئ الإنسان من هذا المبيت ؟ بحيث يقال له قد أتيت بالواجب. في مسألة الوقوف بعرفة من حديث عروة بن مضرس الطائي ومن حديث عبد الرحمن بن يعمر عرفنا أن الوقوف بعرفة يكفي فيه لو دقيقة واحدة وكان قد وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً. أيّ وقوف بعرفة حتى ولو مرور فانه يكفي ويصدق على هذا الإنسان أنه وقف بعرفة وانه أدرك الحج . فالمبيت بمزدلفة الذي أمر الله سبحانه وتعالى به وأمر به النبي _صلى الله عليه وسلم_ في حديث عروة بن مضرس وغيره ماهو المقدار الذي نقول أن الإنسان إذا أتى به فقد أتى بالواجب وما زاد على ذلك فهو سنه ؟ لا شك أن أكمل الهدي وخيره هو هدي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأن أكمل ما يفعله الحاج أنه إذا جاء إلى مزدلفة يصلي بها المغرب والعشاء ويبيت بها ويصلى الفجر ويقف الموقف ويدعو حتى يسفر جدا ثم يدفع منها هذا لا شك أنه هو الكمال بالنسبة لهذه الشعيرة. لكن ما نريد أن نتحدث عنه هو المقدار الواجب الذي إذا أتى به الإنسان فقد برأت ذمته وخرج من العهدة وإذا لم يأت به أثم لتفريطه وتركه واجبا من واجبات الحج . وعلى الخلاف فيما يترتب عليه بعد ذلك. فما هو هذا المقدار ؟
أختلف أهل العلم في المقدار الواجب من المبيت بمزدلفة على أقوال:
القول الأول : فذهب الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ إلى أنه يكفي الحاج أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي المغرب والعشاء ويتعشى فإذا وقف بمزدلفة هذا المقدار فإنه قد أتى بالواجب. يعني إذا قلنا مثلا صلاة المغرب والعشاء تحتاج إلى ربع ساعة والعشاء يحتاج مثلاً إلى ربع ساعة فمعنى ذلك أن الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ يقول أنه إذا وقف بمزدلفة مقدار نصف ساعة فإنه يجزئه ذلك ولو دفع بعد ذلك ، فلو وصلت إلى مزدلفة الساعة التاسعة مساءً ثم بقيت فيها نصف ساعة ثم انصرفت فإنك عند الإمام مالك تكون قد أتيت بالواجب . وما زاد على ذلك فهو تطوع وهو سنه. بل إن من المالكية من قال يكفي من الوقوف بمقدار ما ينزل الإنسان رحلهُ . هذا هو القول الأول في هذه المسألة .
القول الثاني : وهو الذي ذهب إليه الشافعي والإمام أحمد وجماعة من أهل العلم قالوا إن المقدار الواجب لمن وقف قبل منتصف الليل أن يقف حتى منتصف الليل. ومن وقف بعد منتصف الليل فإنه يجزئه أيّ وقوف فإذا أردنا أن ننصف الليل إلى نصفين فإنا نحسب المسافة الزمنية من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وليس كما يتبادر للأذهان أنه من غروب الشمس إلى طلوعها . الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر فإننا إذا قلنا هذا المقدار ثمان ساعات مثلاً فالمنتصف هو أربع ساعات من غروب الشمس فعند الشافعي وأحمد _عليهما رحمة الله_ يجب من الوقوف بمزدلفة إذا وقف الإنسان قبل منتصف الليل أن يبقى فيها حتى ينتصف الليل . وإن وقف بعد منتصف الليل أجزأه أيّ وقوف . هذا هو قول الشافعي وأحمد وجماعة من أهل العلم .
القول الثالث : قول أبي حنيفة _عليه رحمة الله تعالى_ والإمام أبو حنيفة يختلف عن الأئمة الثلاثة فإنه يرى أن الوقوف بمزدلفة من بعد طلوع الفجر فمن وقف أول الليل فإنه يجب عليه أن يبقى عند الإمام أبي حنيفة حتى يطلع الفجر لان الوقوف عنده من بعد طلوع الفجر هذه هي أقوال أهل العلم في هذه المسألة .
أما أبو حنيفة _رحمه الله تعالى_ الذي يقول يجب الوقوف إلى طلوع الفجر وأن الوقوف المشروع بعد الصلاة فإنه يستدل على ذلك بحديث عروة بن مضرس الطائي _رضي الله عنه_ وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضاء تفثهُ . هذا هو مستند الإمام أبي حنيفة_رحمه الله تعالى _ في أن الوقوف بعد صلاة الفجر ولكن الحقيقة أن هذا الحديث ليس على ظاهره في أن الوقوف الواجب بعد صلاة الفجر بدليل أن النبي_صلى الله عليه وسلم_ كما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر _رضي الله عنهما_ ومن حديث ابن عمر وحديث ابن عباس و حديث عائشة رضي الله عنهم أنه _صلى الله عليه وسلم_ قدم ضعفة أهله بليل للدفع إلى منى ولا يمكن أ، يرخص لهم النبي_صلى الله عليه وسلم _ في ترك الواجب فهذه الأدلة تدل على أن، هؤلاء الضعفة من النساء ومن يرافقهم أنهم أتوا بجزء من الواجب ثم رخص لهم النبي_صلى الله عليه وسلم _ في باقية وفي الدفع إلى منى فهذا دليل على أن الوقوف يجب قبل طلوع الفجر لا كما يقول أبو حنيفة _رحمة الله تعالى عليه_ أن الوقوف الواجب بعد صلاة الفجر هذا هو قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه في هذه المسألة.
أما قول الأئمة الشافعي وأحمد في أن، المقدار الواجب إلى منتصف الليل فإذا انتصف الليل فإن الباقي سنه ولا يجب فإنهم يستدلون على ذلك بأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما ثبت في أحاديث كثيرة أذن للضعفة من أهلهِ أن يدفعوا بليل كما في حديث ابن عمر وحديث ابن عباس وحديث عائشة أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أذن لهم أن يدفعُوا بليل فقالوا إذا رخص للضعفة ومن يرافقهم فهذا دليل على أنه قد أُتي بالواجب فإذا انتصف الليل وذهب أول الليل وأتى آخرهُ جاز للضعفة أن يدفعُوا وهذا دليل على أن الواجب قد أُتي به وما عدا ذلك فإنه ليس بواجب فنقول إن هذا المقدار هو الواجب إلى منتصف الليل وما زاد على ذلك فهو غير واجب ولهذا الشافعي وأحمد _عليهما رحمة الله _ يرخصان بعد منتصف الليل للضعفة وللأقوياء جميعاً فمن بقي إلى منتصف الليل فقد أتى بالواجب وما بقي فهو سنه في حقه .
أما القول الأول وهو قول الإمام مالك_رحمه الله تعالى_ وهو أن الواجب من المبيت بمزدلفة بمقدار ما يصلي الحاج المغرب والعشاء ويتعشى أو قول بعض أصحابه أنه يكفي بمقدار ما ينزل الإنسان رحلهُ فإن حجة هؤلاء هي ظاهر الآية فإن الله سبحانه وتعالى يقول {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }فإذا وقف الإنسان بمزدلفة وصلى المغرب والعشاء وذكر الله فقد وقف عند المشعر الحرام. وأنتم تعرفون أن الصلاة من أعظم الذكر كما قال الله عزوجل{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.
يعني اسعوا إلى الصلاة وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }قال الضحاك رحمه الله : ذكر الله:الصلوات الخمس . فإذا أتى بهذا فقد أتى بالمأمور به في كتاب الله سبحانه وتعالى وما زاد على ذلك فإنه مستحب وكمال ولكنه غير واجب. وما أستدل به الشافعية والحنابلة في قول النبي _صلى الله عليه وسلم _ في حديث عروة بن مضرس " من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضاء تفثهُ" فإن هذا كما يقول الموفق ابن قدامة _رحمه الله تعالى_ بإجماع أهل العم أن الحاج لو أنه وقف حتى طلع الفجر ولم يصل الفجر بمزدلفة ولم يذكر الله سبحانه وتعالى في مزدلفة ودفع قبل ذلك أن وقوفه صحيح وإذا كان المأمور به صريحا في الحديث ليس بواجب فلازمه غير واجب من باب أولى
والذي يظهر والعلم عند الله سبحانه وتعالى في هذه المسألة هو وجاهة ما ذهب إليه الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ في هذه المسألة وأن هذا هو المقدار الواجب من المبيت وما ورد من أدلة في هذا الباب كقول النبي _صلى الله علبه وسلم _ كما في حديث عروة بن مضرس " من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع أو أنه أذن للضعفة آخر الليل أو بليل ..الخ . فإن هذه كلها تدل على أن المبيت بمزدلفة منه قدر واجب ومنه قدر كمال واستحباب. فالواجب هو ما أمر به في كتاب الله سبحانه وتعالى وما زاد على ذلك يكون كمالاً ولا شك أن هذا القول له وجاهته إلا أن قول أكثر أهل العلم في هذه المسألة له أدلة قوية وهو محل اعتبار ولكن بالنظر إلى أحوال الناس في هذه الأزمنة فالازدحام الشديد وكثرة الحجاج وكثرة السيارات وكثير من الناس ربما يأتي إلى مزدلفة فيدخل من طرف ويخرج من الطرف الأخر ما يستطيع أن ينزل بها وأن النبي _صلى الله عليه وسلم _ راعى الضعفاء من أهله ومن كان معهم وأن الناس في مثل هذه الأزمنة في حاجه شديدة ولا تقوم الأدلة قيام وجيهاً بحيث لا يتوجه عليها مناقشة بأنه يجب المبيت إلى طلوع الفجر أو إلى آخر الليل أو إلى منتصف الليل. فالذي يظهر والعلم عند الله سبحانه وتعالى وأن قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى _ في هذه المسألة له وجاهه وله حظ من النظر. الأولى بالإنسان ألا يتعرض لخلاف أهل العلم ويدخل بمسألة هل أتى بالواجب أو لم يأت به، ويحتاط لنفسه لكن لو أن الإنسان حصل له مثل ما يحصل كثيرا في أيامنا هذه من أنه دخل متأخر في مزدلفة وما استطاع أن يبقى فيها بعد امتلاء مواقفها وساحاتها ونحو ذلك أننا نقول : مجرد دخوله إلى مزدلفة من طريق وخروجه من الطريق الآخر وبقاءه فيها مدة من الزمن أنه يصدق عليه أنه أتى بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه وأن هذا القدر يكفي في رفع الإثم عنه ولكن كما قلت قبل ذلك الأكمل ما كان عليه النبي _صلى الله عليه وسلم _ وصحابته الكرام .
نأتي الآن إلى المسألة التي بين أيدينا وهي :
حكم من عجز عن المبيت الواجب بمزدلفة ؟
حصل في بعض السنوات أن بعض الحجاج ما وصل إلى مزدلفة الإ بعد طلوع الشمس وانتهاء وقت الوقوف بمزدلفة تماماً
فأولاً على ما رجحناه في حكم المبيت بمزدلفة وأنه واجب وليس بركن فإننا نقول إن حجه صحيح. لان الراجح من أقوال أهل العلم أن المبيت بمزدلفة ليلة العيد واجب من واجبات الحج والواجب إذا تركه الحاج فإن حجه صحيح ومسألة ماذا يترتب على ذلك نبحثها الآن المهم أن نعرف أن الحاج الذي يفوته الوقوف بمزدلفة ويعجز عنه أن حجه صحيح . نأتي بعد ذلك إلى حكم المسألة التي بين أيدينا في جزئها
الثاني. إذا كان الحج صحيحا فماذا يلزمهُ ؟ الكلام عمن عجز عن المبيت بمزدلفة ، لا عمن ترك المبيت بمزدلفة مختاراً. يعني إنسان خرج من عرفات وذهب إلى منى مباشرةً وجلس فيها بدون عذر . هذا ما نتكلم عنه هذا ترك الواجب مختاراً ويلزمه ما يلزم من ترك الواجب مختاراً من الإثم ووجوب التوبة والجبران عند من يقول به. نحن نتكلم عما يحصل لبعض الحجاج في هذه الأزمنة وهي أنه ربما عجز عن الوصول إلى مزدلفة حتى فات وقتها أحياناً كأن يكون في باص مثلاً وفي الطريق يتوقف السير ما يستطيع أنك يذهب لأن أهله معه في السيارة وإذا جلس انتهى وقت الوقوف بمزدلفة قبل أن يصل إليها إذاً هذا عاجز عن الوقوف بها وتركه الوقوف بها عذره العجز. فماذا يلزم هذا العاجز ؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من أحصر عن الواجب فإن عليه دم . من أحصر يعني منع حيل بينه وبين الواجب . مثل من حيل بينه وبين الوقوف بمزدلفة أن عليه دم يعني يجبره بدم ، وجبران الدم مبني على أثر أبن عباس _رضي الله تعالى عنهما_ وهو قوله _رضي الله عنه_ من ترك نسكا من غير الفريضة فليهرق دما . هذا قولٌ في هذه المسألة
القول الثاني في هذه المسألة: وهو الذي أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد العثيمين _رحمهما الله تعالى _ أفتيا به الحجاج الذين عجزوا عن المبيت بمزدلفة وأنه لا يلزمهم شيء فمدام أنهم تركوا المبيت عجزاً فإنه لا يلزمهم شيء .
ماحجة من قال بهذا القول ؟
استدلوا بدليلين :
الأول : حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي _رضي الله تعالى عنه _ وقد رواه الخمسة وهو حديث صحيح وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال " الحج عرفه ". فمن جاء قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجهُ هذا هو الشاهد فمن وقف ولو للحظة قبل طلوع الفجر بعرفات فقد تم حجهُ. ومن المعروف أن من وقف في هذا الوقت لن يقف في مزدلفة يعني في آخر لحظة من الليل فإنه عند جمهور أهل العلم قد انتهى لان وقت المبيت الواجب عندهم ينتهي بطلوع الفجر .فمن وقف في آخر لحظة في عرفة وهو طلوع الفجر فإنه بالتأكيد لن يستطيع أن يقف بمزدلفة. والنبي _صلى الله عليه وسلم _ يقول " فقد تم حجهُ " وهذا دلالته أن من وقف بآخر لحظة من وقت الوقوف بعرفة بعرفه ففاته الوقوف بمزدلفة وفواته ذلك بعذر لأنه ما وقف بعرفة إلا في آخر وقتها فقد تم حجه وما على من تم حجه من شيء هذا هو الحجة الأولى لمن قال بهذا القول
الدليل الثاني : قالوا إن كل ما عجز عنه المكلف من الواجبات ومن شرائط العبادات فإنه يسقط. كما قرر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في أن ما عجز عنه المكلف من شرائط العبادات ومن واجباتها فإنه يسقط. كما لو أن الإنسان مثلاً عجز عن ستر العورة أو غير ذلك كالسجود ونحوه فإن من عجز عن شيء من الواجبات وشرائط العبادات فإنه يسقط عنه بالعجز لعموم الأدلة الدالة على أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف الإنسان إلا وسعهُ . (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وهذا القول هو اختيار الشيخين ابن باز والعثيمين _رحمهما الله تعالى_ كما سبق وهذا هو الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة والعلم عند الله. بقية مسألة ليس من النازلة التي نريد أن نتحدث عنها لكن من المهم أن ننبه عليها لان الترجيح في مسألة سابقة قد يترتب علية إشكال فقد ذكرت لكم قبل قليل في مسألة المقدار الواجب من الوقوف بمزدلفة أن قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ في هذه المسألة وجيه وأن الإنسان لو وقف في مزدلفة ربع ساعة أو نصف ساعة أو مر بها مروراً فإن هذا يجزئه على قول الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ وهو قول وجيه له حظ من النظر. لكن قد يترتب على هذا أمر آخر وهو أن يأتي إنسان مثلاً من عرفات فيصل إلى مزدلفة الساعة التاسعة ثم يقف فيها لمدة ساعة ثم يركب سيارته ويذهب إلى جمرة العقبة ويرميها فحتى لا نقع في هذا الإشكال أردت أن أنبه على هذه المسألة التي أمامكم وهي مسألة حتى لو قلنا بقول الإمام مالك _رحمه الله تعالى_ ووقف الإنسان بمزدلفة مقدار الواجب ثم دفع قبل منتصف الليل.
متى يبدأ وقت رمي جمرة العقبة ؟
لاشك أن رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس هو هدي النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو أكمل الأحوال وهو صحيح بإجماع أهل العلم لكن قبل هذا الوقت متى يجوز له أن يرمي جمرة العقبة ؟ متى يبدأُ وقتها ؟ لا أعلم أحد من أهل العلم قال يجوز أن ترمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل حتى الإمام مالك _رحمه الله تعالى _ الذي يقول أنه يجزئه أن يقف بمزدلفة بمقدار ما يصلي بها المغرب والعشاء ويتعشى يقول لا يجوز له أن يرمي جمرة العقبة حتى تطلع الشمس . وإنما اختلفوا فيما بين منتصف الليل إلى طلوع الشمس . فقال الشافعي وأحمد إذا انتصف الليل جاز لمن بمزدلفة أن يدفع وجاز له أن يرمي جمرة العقبة وقال بعض أهل العلم لا يرميها حتى يطلع الفجر. وقال بعض أهل العلم لا يرميها حتى تطلع الشمس. هذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة وهي بداية وقت رمي جمرة العقبة من قال بأن وقت الرمي يبدأ بعد منتصف الليل هم الشافعي وأحمد ومن قال بقولهم وهؤلاء استدلوا بأدلةٍ من أظهرها وأقواها ما رواه أبو داود عن عائشة _رضي الله عنها_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أرسل أم سلمه بليل فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم أفاضت إلى البيت وصلت الصبح في مكة " فأم سلمه _رضي الله تعالى عنها _ رخص لها النبي _صلى الله عليه وسلم _ أن تدفع بليل فذهبت ورمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم ذهبت من جمرة العقبة إلى المسجد الحرام وأفاضت وصلت الفجر هناك فهذا نص صريح أنها رمت قبل الفجر. ومن أدلة أصحاب هذا القول .ما في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر_رضي الله عنها_ أنها وقفت بمزدلفة ثم أخذت تصلي ثم قالت لمولاها يا بني هل غاب القمر؟ قال لا فرجعت فصلت ثم قالت هل غاب القمر؟ قال نعم فأمرت أن يرتحلوا فارتحلوا حتى أتوا منى ثم رموا جمرة العقبة قال مولاها فرجعنا إلى منزلها يعني بمنى ثم صلت الصبح فقلت يا هنتاه لقد غلسنا _يعني صلينا الفجر بغلس _ فقالت يابني قد أذن رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ للضعن . والضعن جمع ضعينة وهي : المرأة التي تركب على البعير فالشاهد في هذا أن سياق الدليل يدل على أنها رمت قبل طلوع الفجر لأنها رمت ثم رجعت إلى منزلها ثم صلت الفجر بغلس. هذا حجة من قال إنه يجوز الرمي بعد منتصف الليل إذا جاز الدفع جاز الرمي . وأما الذين قالوا أنه لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الفجر فقد احتجوا بحديث أسماء نفسه وقالوا إن حديث أسماء ظاهره أنها مارمت حتى طلع الفجر. والذي يظهر لي والعلم عند الله سبحانه وتعالى أن أسماء رمت قبل طلوع الفجر لأنها رمت ثم ذهبت إلى منزلها فصلت فقالت ياهنتاه لقد غلسنا فبعد رميها ذهبت إلى بيتها ثم صلت الفجر فالذي يظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم أن حديث أسماء يدل على أن الرمي قبل طلوع الفجر. أما الذين قالوا أن الرمي لا يجوز إلا بعد صلاة الفجر وبعد طلوع الشمس فا استدلوا بما رواه أهل السنن عن ابن عباس _رضي الله عنهما _ أنه قال قدمنا رسول الله _صلى لله عله وسلم _ ليلة جمع أُغيلمة بني عبد المطلب فأخذ رسول الله _صلى الله عليه ويلم _ يلطحُ أفخاذنا ويقول أُبيني لا ترموا حتى تطلع الشمس . أوبيني بمعني أي أبنائي وهذا نوع من الملاطفة لهم منهُ _صلى الله عليه وسلم _ لا ترموا حتى تطلع الشمس والحديث صحيح.وهذا قد يشكل فعلا كيف تقولون يرمي بعد منتصف الليل والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول لهؤلاء لا ترموا حتى تطلع الشمس. لكن أقول لكم إن حديث ابن عباس يدل على عدم الرمي حتى تطلع الشمس وحديث أسماء يدل على الرمي قبل طلوع الفجر في الدلالة الصحيحة وحديث عائشة دلالته أكيدة وفيه أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أمر أم سلمه أن تدفع فدفعت قالت عائشة فرمت جمرة العقبة قبل الفجر. فهذا فيه لا ترموا حتى تطلع الشمس وهذا فيه أن أم سلمه _رضي الله تعالى عنها_ رمت قبل الفجر. فهذه متعارضة وأحسن ما يقال في الجمع بينها هو ما قاله الشنقيطي _رحمه الله تعالى _ أن حديث أسماء وحديث عائشة في قصة أم سلمه يحمل على الجواز. وحديث ابن عباس يحمل على الاستحباب. والذي يظهر والله سبحانه وتعالى أعلم هو قول الشافعي وأحمد في هذه المسألة وهو أنه إذا انتصف الليل فقد جاز رمي جمرة العقبة .
تنبيه يسير قبل أن نختم هذا وهو أن الأحاديث كثيرة في أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ رخص لضعفة أهله وللنساء وللضعن من أخر الليل فأقول إن هذه الرخصة التي ثبتت لهؤلاء في عهد النبي _صلى الله عليه وسلم_ تثبت لأكثر الناس أو لكل الناس مع هذه الأعداد الهائلة فإنهم يستحقون مثل هذه الرخصة والعلم عند الله سبحانه وتعالى .

بواسطة : essaher
 0  0  809
التعليقات ( 0 )

جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 01:09 صباحًا الأربعاء 15 مايو 2024.